العودة الحقّة: من فلسطين وإلى فلسطين نعود

مدى الأخبار: نتنبّه للحياة بعد أن نغفو في غيبوبة الموت على حين غرّة. نتنبّه أن الوقت يمضي، ولا مجال لدينا لضبطه أو حتى تثبيطه قليلاً. لحظات، تجّرع فيها ابراهيم أبو لغد الموت، إثر عملية جراحية أجراها في رئتيه في 1990، كادت أن تودي بحياته وهو بعد في بداية ستينياته، فآثر على تتمة نبوءة قلبه والعودة إلى مسقط رأسه: يافا. أيقن حينها أن لا مجال للمهادنة مع الحلم، وعليه أن يغزِلَهُ مسرعا قبل فوات الأوان. وهكذا فعلاً كان. عقد أبو لغد العزم على العودة إلى فلسطين. شريط ذكريات مرّ أمامه، منذ أن ركب سفينة الصليب الأحمر البلجيكية Princess Alexandra، ونزح بحراً إلى بيروت، تنقّل بعدها بين عدد من الدول العربية، إلى أن انتهى به المطاف في الولايات المتحدة الأمريكية.
لم يملك ابراهيم، ابن 17 ربيعاً حينها، جواباً لسؤال البحار البلجيكي الذي استقبله على متن الباخرة، وسأله: “لماذا تركتم بلدكم؟” وظل يسأل نفسه ذات السؤال طوال 43 عاماً في المنفى، وكأنه يتحضر طوال الوقت للعودة وإجابة البحار عليه، وقد وجد جوابه عندما باغتته سكرة الموت في وعكة صحية، وأيقن أنّ الموت يلعب معه الغمّيضة. لم يقبض عليه آنذاك، وكأنه الجرّة التي لم تتشظَّ ولمّا انكسرت بعد، لكن “مش كل مرة بتسلم الجرّة”. فسار نحو حلمه مقبلاً.
عاد المفكّر د. ابراهيم أبو لغد إلى فلسطين في الذكرى الرابعة للانتفاضة، وزار يافاه. تفقّد فيها كل الزوايا، وطابقها مع ما جمّده في مخيّلته عنها، عزم بعدها على استعادة المعالم العربية فيها، فكان يأتي بمجموعة من طلابه الماجستير من جامعة بيرزيت التي اختار التدريس فيها لزيارة يافا، يدعوهم إلى مأدبة سمك من إحدى المحال العربية، يجوب بهم المدينة، معرّفا إياهم على معالمها، ذات المعالم التي ما فَتِئَت تسكن رأسه. تقول جميلة عبد (بكر)، إحدى الصديقات المقربات لعائلة ابراهيم: “في كل زيارة من زياراته الدورية ليافا، كان ابراهيم يحاور الأطفال هناك ويسألهم عن أسماء الأماكن والشوارع فيها، كان يمتحن بعضهم بالسؤال عن حيّ العجمي وسط المدينة، لتثلج صدره إجاباتهم ويطمئن سرّه حيال ما سمع من ذاكرة بعدُ حيّة، فيبتهج كثيراً لخلاصة مفادها: أن الطفولة في يافا، برغم الأسرلة وكثافاتها، ما زالت تشير للأماكن والشوارع اليافاوية بأسمائها العربية”، وتكمل: “كان ابراهيم يحاضر بفخر كلما عثر مع طلابه أو أصدقائه وهم يمشون على منهل مكتوب عليه بخط بارز “شركة السكب الفلسطينية المحدودة الأسهم”، والتي كانت ملكاً لوالده.
فمنذ آذار 1992 لغاية أيار 2001، كانت عودة د. أبو لغد إلى فلسطين مقرونة بتأشيرة “سائح” صالحة لمدة ثلاثة شهور، يضطر إلى السفر كلّما تنتهي المدة عينها، ويعود من جديد ليشتري زمناً في البلاد، وهكذا ظلّ حتى مماته.

د. ابراهيم أبو لغد 1929-2001
في 23 من أيار/ مايو 2001، وبرباطة جأش عالية، أشبه بمقطع أكشن من فيلم هوليودي مثير؛ بدا مهندَماً ببدلة، مع نظارات شمسية تحجب غفوة العينين الأبدية؛ أجلَسَتْهُ ابنته (ليلى) في السيارة بجانبها، أحكَمَت على صدره حزام الأمان، وانطلقت به تجاه حاجز قلنديا العسكري، وقد كان وقتها أرضاً مغبرّة، مُحكمة الاجتياز بمكعبات إسمنتية مع أبراج مراقبة يعتليها جنود إسرائيليون، يراهقون ببواريدهم، وموجهينها باستخفاف نحو كلّ ما هو فلسطيني. صَفُّ سيارات طويل، بعد المكوث تحت أشعة الشمس، جاء دورها، تقدمت بعزم، أظهرت للجنود جوازها وجواز أبيها الأمريكييّن، وحاكت روايتها بأنها ذاهبة إلى المستشفى لعلاج أبيها المريض– الماثل بجانبها- وقد أضحى عليه الشحوب وبانت على ملامحه العلّة، وأصبح بحاجة لتلقي العلاج في أقرب مشفى. بعد فحص الجوازَين، وممارسة حفنة من أساليب السيطرة والغطرسة، سمح الجنود لهما بالمرور. وبهذا، انطلقت ليلى برفقة أبيها المتنيّح إلى مستشفى المقاصد.
تصف ليلى شعورها بعد اجتيازها برزخ قلنديا، وهي بكامل الإدراك والحزن لفقدان والدها، لكنها شعرت بنوع من الإنجاز لنجاح خطتها، “كانعتاق العبيد إلى الحرية“. توضّح ليلى في سردها كيف يحاول الاحتلال الاستيلاء على المكان عبر عبرنته ووضع لافتات، يعلن من خلالها استملاك الأرض، مع نظام فصل عنصري واضح بين الإسرائيلي المحتلّ والفلسطينيين، وهم سكان الأرض الأصليين. أحسّت ليلى بالراحة لعدم رضوخها لقسوة الواقع، بل ذهبت بحرارة نحو الوفاء لوصية والدها: الدفن في يافا.
استخرجت ليلى شهادة وفاة لوالدها من مستشفى المقاصد، واستطاعت تحويل “فيزا السائح الأمريكي” التي كانت بحوزته وتسخيرها لتحقيق حلم العودة، بعد اقتناص ثغرة في القانون الاسرائيلي، تحقّ “للسائح” -إذا كان قد توفي داخل ما يسمى “اسرائيل” أن يُدفن فيها- وقد امتثلت ليلى للقانون كامتثال حنبليّ، وطبّقته بحرْفية حتى أتمّت عملية الدفن.
في احتفالية العودة الحقّة، وبمساعدة من أبناء يافا، الذين نسّقوا لمراسم الجنازة المهيبة وإتمام عملية الدفن؛ أحيَتْ يافا عن بكرة أبيها عودة ابراهيم أبو لغد إلى جوفها، ملفوفاً بالعلم الفلسطيني، ومحققاً حلمه الأزلي، ممارساً العودة إلى تراب مدينته الأولى، مسقط رأسه، حيث دفن في مقبرة الكزخانة بجانب عائلته في يافا.

شاهدة قبر ابراهيم أبو لغد في مقبرة الكزخانة في يافا، أخذتها معدة المادّة في 15 آذار/مارس 2025 مع تعديل بواسطة الذكاء الاصطناعي بتكثيف الحبر وتظليله لغاية قراءة المكتوب فقط
وفي مقاربة أخرى، وبعد 16 عاماً من الحيلة إيّاها، هرّبت السواعد المقدسية جثمان الشهيد محمد أبو غنّام ليوارى جسده ثرى المدينة المقدسة. لم يكن هناك مراسم جنازة أو ما شابه، وإنما تناقلاً بين الأيدي، تهريباً بين السناسل، من سور مستشفى المقاصد، إلى مثواه الأخير في مقبرة الطور، خوفاً عليه من الاختطاف والوقوع في أسر الاحتلال في ثلاجات العدوّ أو مقبرة الأرقام، الأمر الذي ينافي اتفاقية لاهاي واتفاقية جنيف الأولى لتسليم جثامين الشهداء وذويهم ودفنهم بكرامة، وحسب معتقداتهم الدينية.
فبحكم الممارسة التعسفية السائدة، أضحى هناك سيناريوهات كثيرة وغايات من اختطاف الجثمان، فبَيْن قهر قلب الأم والعائلة كعقاب جماعي ممتد بعد القتل، إلى جريمة الإخفاء القسري للجثامين واحتجازهم في ظروف غامضة، واستخدامهم كورقة ابتزاز سياسي، بل تمادي الاحتلال أكثر لينتهك حرمة الجسد بسرقة الأعضاء.
ليس فقط أبو لغد وأبو غنام، وإنما الفنان المقدسي كمال بُلّاطة أيضاً، الذي ولد في عام 1942 لعائلة مسيحية أرثوذكسية في البلدة القديمة في القدس. أكمل كمال دراسته في إيطاليا، وتزامن تواجده في بيروت مع النكسة، حيث باءت جميع محاولاته في العودة إلى أرض الوطن بالفشل من قبل الاحتلال. سافر بعدها إلى أمريكا من خلال منحة عبر (الكويكرز)، واستكمل من هناك مواظباً على مساعي العودة بغير نجاح، لكنه حصل -بموجب مكوثه الطويل في الغربة- على الجواز الأمريكي.
بالرغم من تشدّده العلماني، إلا أن اشتهر بُلّاطة في توظيف فنّ الخطّ العربيّ في تشكيلات هندسية تجريدية في محض أعماله الفنيّة المعاصرة والمدهشة معاً، متأثراً بالتصوّف والتراث العربي الإسلامي. وقد كان جليّاً كيف نَمَت مَلَكَة الرّسم لديه صوب أنماط الخطوط، عندما كان يذهب -وهو بعدُ طفل- إلى قبّة الصخرة، ويجلس أمام بهائها ساعاتٍ ليستنسخ على دفتره الصغير ما يزيّن المثمَّنَ من آياتٍ قرآنيةٍ مزخرفةٍ على البلاط القيشاني الأزرق. طوّر كمال موهبته فيما بعد باستدخال روعة النوتات الموسيقية وسحرها مع قياس للزوايا الهندسية، كما كان مهووساً في استحضار المكان المفقود في الغربة، فعكس هويّته ممّا أسَر نفسه من جمالية الماضي في منفاه الحديث، وذلك عبر انتقاء آيات من الإنجيل والقرآن، رسمها بسحر لغة الضاد في لوحاته، وجاهر بها بفخر في صالاتِ المعارض.

ثورة/ ثورة، 1978 بريشة الفنان المقدسي كمال بُلّاطة
بعد 18 عاماً، استطاع بُلّاطة -عبر جوازه الأمريكي- الذي مكّنه من العودة إلى فلسطين مع زوجته (وهي لبنانية الأصل)، ولكن هذه المرة كـ”سائح” زائر وليس كعائد مقيم، وفق مدّة مضبوطة وسقف زمني ينتهي بموجب ما يختم على تأشيرة جوازه الأعجمي، يُجبَرُ بعدها أن يرحّل خائباً إلى “وطنه الجديد”. المثير في هذه الزيارة التي حدثت في 1984، أنه اصطحب فيها صديقه الهولندي اليهودي الديانة إلى فلسطين، وقد كان مُخرِج أفلام، رافقه في البلاد مع كاميرا فيديو، وثّقت قصته في فيلم “غريب في المنزل- Stranger at Home“.
أنكى ما في الفيلم، عندما ذهب الصديقان إلى وزارة الداخلية الإسرائيلية، ليسألا عن الوضع القانوني لبُلّاطة واستجلاب هويته وأوراقه الثبوتية، وذلك بعد أن زار كمال مختار طائفته في كنيسة دير الروم الأرثوذكس، متري الطبّه، وفحص سجلات الأحوال الشخصية لعائلة بُلّاطة العريقة، ليجد أن أصل العائلة يُثبِتُ وجودها الفعلي ومُلكيتها أصولاً في القدس لما يزيد عن 600 عام. لكن، بحسب قانون الغائبين، أكد الموظف الإسرائيلي أنه لا مكان لكمال بُلّاطة في القدس، فهناك فرق بين اليهود وال”gentiles” على حد تعبيره، وهي كلمة تستخدم في السياق اليهودي للإشارة إلى غير اليهود أو “الأغيار” أو الغرباء المغايرين ثقافياً ودينياً، بينما أكّد بالمقابل على أحقيّة صديقه الهولندي اليهودي الديانة، رودولف فان دير بيرغ، الذي كان يوثّق بجانبه القصة مرئياً بالكاميرا، وبحكم قانون العودة لليهود (الذي يعتبر بسنّه سلاحاً يشنّ به الاحتلال حربه الديمغرافية)، أن يستوطن في القدس، وكأنه يقول للمُخرج الذي جاء لمساعدة صديقه واستعراض مِحْنته، أنه بإمكانك وبكل بساطة، أن تحلّ مكان صديقك، ذاك الفلسطيني البائس!
انتقل كمال بُلّاطة إلى الأخدار السماوية في مدينة برلين، التي عاش فيها آخر سبع سنوات من حياته، وبالتحديد في عيد التجلّي، الذي صادف 6 من آب/ أغسطس 2019، كما جاء في بيان عائلته، وقد توعّكت عائلته بين تحقيق حلمه في العودة إلى القدس واستحقاق الدفن في المكان الذي سلّم فيه الروح. وعليه، قررت زوجته المصون (ليلي فرهود) استنفاذ كمال المحاولات لعودته إلى دياره الأرضية بكرامة وسلام، وعليه، قامت بتوكيل صديق العائلة، المحامي جونثان كُتاب، الذي راسل بدوره وزارة الداخلية الإسرائيلية، ونجح بعد رغي ورفض استمرّ قرابة الأسبوعين، في استجلاب تصريح دفن لجثمان بُلّاطة في مسقط رأسه: القدس. وهكذا فعلاً كان. وارى جسد الفنان كمال بُلّاطة الثرى في مقبرة صهيون في القدس المحتلة، وسط اكتظاظ المقدسيين الذين توافدوا من كل حدب وصوب للمشاركة في احتفالية الوداع الأخيرة.

الفنان كمال بُلّاطة 1942-1919
وبين عودة إبراهيم أبو لغد، ومحمد أبو غنام، وكمال بُلّاطة إلى التراب في موطنهم، كأداة من أدوات المقاومة، وفي سياق معتلّ استيطاني تهويدي إحلالي حتى في الموت؛ دفن امبراطور الكازينوهات، الأمريكي الملياردير، اليهودي الديانة، شيلدون أديلسون في مقبرة جبل الزيتون في القدس، بعد أن توفي في مسقط رأسه “الولايات المتحدة الأمريكية” عقب معاناة مع سرطان الغدد الليمفاوية في عام 2021. ويُذكر أنّ أديلسون، مؤسس صحيفة (ازرائيل هيوم)، ولد في أمريكا من أب ليتواني وأم ويلزية في عام 1933. تكوّمت ثروته بالقمار حتى بات يملك ثمانية منتجعات على غرار منتجعه الشهير في لاس فيغاس. ويعتبر أديلسون صديقاً مقرّباً للرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حيث قدّم للأول أكثر من 80 مليون دولار دعماً له وللحزب الجمهوري في انتخابات 2015، وكان من الداعمين الشرهين لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، بل كان موجوداً في افتتاحها في أيار/ مايو 2018، وقد رأينا الحميمية في رثاء نتنياهو له، ووصفه أديلسون “باليهودي الوطني الكبير”. كان من الأجدى، وفق المنطق الرأسمالي الشّره، أن تُخَصّص هيكتارات من منتجعات رجل الأعمال الأمريكي الفاحش الثراء لدفنه فيها، تكريماً لمقدّراته الشهيرة في بوسطن، مسقط رأسه أو لاس فيغاس على سبيل المثال؛ لكنّ الاحتلال الاستيطاني الإحلالي يتبارى على سرقة مساحة رقعة قبر في القدس وابتلاع ترابها، لدفن الرجل الذي حُمّل بطائرة عابرة للقارات طمعاً في شاهدة قبر في المدينة التي قاتل في حياته للاعتراف بها كعاصمة لاسرائيل.
وفي واقع مختلف عن معارك العودة وانتزاع حيّز قبر في الأرض المحتلة، وبالتحديد عند الذيل الجنوبي للشريط الساحلي الفلسطيني، ووسط الجنون الممتد لأكثر من سنة ونصف في سجن قطاع غزة الكبير؛ لم تسلم قبور الموتى هناك من جريمة الإبادة جراء القصف وقلب التربة والتجريف وسرقة الجثامين. فحسب بيانات وزارة الأوقاف الإسلامية، استباح الاحتلال مدمّراً ومجرّفاً آلاف القبور في 44 مقبرة من أصل 70 مقبرة رسمية في مناطق مختلفة في القطاع، غير استهدافه، وباعتراف منه، للمقابر الجماعية العشوائية والفردية أيضاً، فهناك من دفن شهداءه في الطرقات والساحات والأراضي الزراعية وحتى داخل البيوت، في جرائم انتهاك حرمات لم تجد تداولاً في أروقة القضاء الدولي بعد.
وبالرغم من هذا كله، تبقى العودة الحقّة ممارسة السكان الأصلانيين الأصيلة، وتعبيرهم الصادق على التمسّك بثوابت حق اللاجئين سعياً لاكتمال العودة، إذ لم يكن احتضان التراب لجسد أبو لغد أو أبو غنام وبُلّاطة مجرّد اكتمال شعائر دينيّة لمعتقد يذكّر بعدمية اللحم وعودة النفس إلى بارئها، أو ممارسة طقس يحترم مكانتهم الوطنية والثقافية والفكرية والفنية فحسب، بل تعدّت ذلك لتدخل منطق المقاومة وعدم التسليم، بل الإصرار على العودة إلى تراب الوطن، متحدّية بذلك ممارسات الاحتلال وسياساته الاستعمارية حتى في الموت، ومذكّرة العالم بأنّا من فلسطين وإلى فلسطين نعود.
هند شريدة*: كاتبة وصحفية مقدسية.
المصدر: فارءه معاي
https://faraamaai.org/articles/belkhat-alareed/alaaod-alhk-ana-mn-flstyn-oal-flstyn-naaod